في تحول دراماتيكي لم تشهده أسواق المعادن الثمينة منذ عقود، سجلت شاشات التداول الامس مستوى سعريًا للذهب بدا قبل سنوات قليلة وكأنه ضرب من ضروب الخيال العلمي، حيث لامست الأونصة الواحدة عتبة الـ 3348.50 دولارًا أمريكيًا. لم يكن هذا الارتفاع مجرد تصحيح فني عابر أو تقلب لحظي في السوق، بل تجسيدًا للحظة محورية تعيد رسم ملامح المشهد المالي العالمي برمته، وتضع المعدن الأصفر في بؤرة اهتمام المستثمرين وصناع القرار على حد سواء.
إن الصعود الملحوظ الذي شهده سعر الذهب منذ بداية العام، والذي تجاوز نسبة الـ 26%، لا يمكن اعتباره مجرد صدفة سوقية أو فقاعة مؤقتة. بل يعكس تحولًا بنيويًا أعمق في سيكولوجية المستثمرين العالميين، الذين باتوا ينظرون إلى الذهب بشكل متزايد كملاذ آمن وحصن منيع في وجه تزايد موجات الغموض التي تكتنف الأوضاع السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية. وفي طليعة هؤلاء الباحثين عن الأمان، تبرز البنوك المركزية حول العالم، التي كثفت بشكل ملحوظ من وتيرة مشترياتها من المعدن الأصفر، في خطوة تعكس استراتيجية لتنويع الأصول وتعزيز الاحتياطيات في ظل تقلبات العملات الرئيسية.
إلى جانب ذلك، تشهد صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب إقبالًا متزايدًا وتدفقات نقدية قوية، مما يعزز الطلب الكلي على المعدن النفيس ويدفع أسعاره إلى مستويات أعلى. هذا الإقبال يعكس ثقة المستثمرين الأفراد والمؤسسات في قدرة الذهب على الحفاظ على قيمته في أوقات الاضطرابات وعدم اليقين.
وفي سياق هذا الزخم الصعودي، تأتي التوقعات الصادرة عن مؤسسة “غولدمان ساكس” لتضفي مزيدًا من الثقة على هذا الاتجاه. حيث تتوقع المؤسسة المالية العملاقة أن يواصل سعر أونصة الذهب ارتفاعه ليلامس مستوى الـ 4000 دولار أمريكي بحلول منتصف عام 2026. وتستند هذه التوقعات الطموحة إلى عدة عوامل رئيسية، في مقدمتها الزيادة المتوقعة في شهية البنوك المركزية للمعدن الأصفر. فبدلًا من التقديرات السابقة التي كانت تشير إلى شراء البنوك المركزية لنحو 70 طنًا من الذهب شهريًا، تشير التوقعات الجديدة إلى أن هذا الرقم قد يرتفع إلى 80 طنًا شهريًا، مما سيضخ المزيد من الطلب في السوق ويدعم الأسعار بشكل كبير.
إن هذا الارتفاع اللافت في أسعار الذهب يطرح تساؤلات مهمة حول تأثيراته المحتملة على مختلف جوانب الاقتصاد العالمي، بدءًا من معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وصولًا إلى استراتيجيات تخصيص الأصول لدى المستثمرين. كما أنه يسلط الضوء على الدور المتزايد الذي يلعبه الذهب في النظام المالي العالمي كمؤشر على المخاطر وكمخزن للقيمة في أوقات عدم الاستقرار. ويتطلب هذا الوضع متابعة دقيقة وتحليلًا معمقًا لفهم كامل تداعياته على المدى القصير والطويل.